مجدي الجلاد.. هل يقود 'المصري اليوم' إلى الثورة المضادة؟!!
يدهشني، كما يدهش كثيرين، أمر جريدة 'المصري اليوم'. فلن يتمكن عتاة الليبراليين من أن يشرحوا لنا كيف انفلتت تلك الجريدة ـ وهي ترتدي ثياب الواعظين - إلى الحد الذي دفعها لنشر مقال مبرز للوزير 'الهارب' للتجارة والصناعة رشيد محمد رشيد في عددها الصادر يوم الاثنين 8 ـ 3 - 2001.
المقال يمثل عريضة دفاع يائسة، في وقت يعلم فيه القاصي والداني بإحالة الرجل إلى محكمة الجنايات، وإصدار سلطة الإنتربول مذكرة اعتقال بحقه بناء على طلب السلطات المصرية، بعد أن وجهت له النيابة العامة تهم التربح من أعمال وظيفته والاستيلاء وإهدار المال العام. وهو ما يعني، بالتعريف القانوني، أن ثمة جدية تقوم عليها اتهامات الادعاء العام، وليست ثمة شبهة من أي نوع تحيط بمثل هذه القرارات لأن جميع المتهمين بقضايا مثيلة، بمن فيهم السيد رشيد، يحاكمون أمام قاضيهم الطبيعي، رغم أن الظرف العام كان يمكنه أن يقذف بهم أمام المحاكم الاستثنائية، سواء كان ذلك أمام القضاء العسكري أو أمام محاكم أمن الدولة العليا، جريا على ما كان يفعله النظام البائد الذي يعد رشيد واحدا من رموزه المبرزين.
فقد رفض المجلس الأعلى للقوات المسلحة استخدام القوانين العرفية، وتصرف بمسؤولية وأخلاقية يستهجنهما الآن عتاة الليبرالية، بسبب ما يرونه إجراءات غير كافية لوأد بذور الثورة المضادة التي يقودها الطابور الخامس لأجهزة الأمن وفلول الحزب الوطني وعدد وفير من رجال الأعمال وسراق المال العام.
بالطبع، لا يجب أن نتعامل مع رشيد باعتباره مذنبا بالضرورة. فيظل ما وجهته إليه سلطات الاتهام محتاجا إلى أحكام قضائية باتة ونهائية بالبراءة أو الإدانة، لكن ثمة أسئلة لا بد أنها دارت في خلد السيد مجدي الجلاد رئيس تحرير الجريدة التي تتبنى موقف الوزير الهارب، منها مثالا، تأثير مثل هذا الكلام المرسل والملقى على عواهنه على عملية سير العدالة، وتغيير الكثير من الأدلة المطروحة أمام سلطة الاتهام ومحاولة التأثير في ضميرها. فمن الفرضيات الأولى للموضوعية في حالة كهذه أن نترك أمر التداعي والاتهام لصاحب الاختصاص الأصيل وهو القضاء، طالما انتقل النزاع من أدراج التجريس المجتمعي والسياسي إلى إطاره الموضوعي عبر الاحتكام لقواعد العدالة. وجميعنا يعرف أن الكثير من الدوائر القضائية تقوم، في معظم قضايا الرأي العام، بحظر النشر ما استمرت المحاكمة أو تقصر ذلك على مرحلة من مراحلها، وهو إجراء لا يأتي اعتباطيا، بل يفرضه القاضي على نفسه وعلى الآخرين، لما يسبغه هذا الإجراء من حماية للمراكز القانونية المختلفة. فهو يمثل، في مثل هذه القضايا، حماية للمتهم قبل أن يكون حماية للمحكمة وللرأي العام في الوقت نفسه. كل ذلك يتأتى في إطار الحرص على تقليص أية عناصر بإمكانها أن تصرف العدالة عن جوهر بحثها وهو ما يقلل من فرص التأثير على سير العدالة باعتبار القضاة أنفسهم من البشر الخطائين مثلنا تماما، لكن نتائج أخطائهم لن تكون هي نفسها نتائج أخطائنا، ومن ثم فإن المكان الوحيد الذي كان يلائم عرض مرافعة السيد الوزير هو ساحات المحاكم وليس صفحات 'المصري اليوم'.
ليس هذا هو المنعرج الوحيد الذي يمكننا التوقف على ناصيته، بل ثمة ما يثير العجب على مستوى آخر، ألا وهو مضمون مقال الوزير الهارب.
فقبل أيام قلائل أدلى الرجل من موطنه الأمريكي الجديد بعدة تصريحات لصحيفة 'الواشنطن بوست' يعبر فيها عن صدمته مما يحدث له، ويعلن رفضه العودة إلى أرض الوطن. وعلى حد قوله ستعني العودة بالنسبة له إيداعه السجن بمجرد أن تلامس قدماه أرض مطار القاهرة. فبأية موازين يمكننا أن نثمن موقف الجريدة حيال وزير يتعمد الهروب من العدالة ويعلن موقفه بهذا السفور رغم علمه اليقيني بإحالة ملفه إلى محكمة الجنايات، بعد أن امتنع، عبر عدة جلسات، عن حضور تحقيقات النائب العام. الأمر يعني من الناحية القانونية، أنه يتنازل عن حقه في الدفاع، ومن ثم فمن المتوقع أن يصدر ضده حكم بإيقاع أقصى العقوبة، لأن الوجه الآخر للتنازل عن الحق في الدفاع هو الإقرار بالأفعال المنسوبة للمتهم، أي متهم.
أما المثير في موضوع مقال الوزير الهارب فهو هذا الدفاع المستبسل والمثير للسخرية عن الثورة المصرية. فهل كان رشيد مع الثورة المصرية؟!! ثم تتحول مقالة الوزير، بعد فاصل من النفاق الرخيص للثورة، إلى عريضة من الدفاع اليائس عن شرفه المهني والأخلاقي. وهي عريضة، كما أسلفنا، تأتي في غير مكانها. ولا أظن المصريين الآن بإمكانهم تصديق الرجل. وعلى الأرجح، لن تنطلي عليهم أراجيز الجلاد الذي سريعا ما سينبري للدفاع عن فعلته باعتبارها من أدبيات الاعتراف للآخر بحقه في الوجود، وهي قولة حق طالما أشبعناها بالدنس بسبب إسرافنا في محاولات استنباتها من رحم الباطل.
من هنا لا يمكننا فهم موقف 'المصري اليوم' ورئيس تحريرها من الوزير الأسبق سوى كونه منهجا توطنت عليه الجريدة منذ إنشائها، وهو منهج ارتكبت ـ تحت رايته ـ ما يرقى إلى مرتبة الجرائم الأخلاقية. فكثيرا ما أثار السيد الجلاد الكثير من الغثاء بِرُطَان نصفه جاهل ونصفه مغرض، حول التعدد والتنوع واحترام الرأي الآخر. وظل هذا البؤس الفكري والأخلاقي بوابة للتعاطف السري أحيانا والمعلن في معظم الأحايين، مع مشروع توريث حكم مصر لجمال مبارك باعتباره 'مواطنا مصريا' وما يكفله الدستور لابن الرئيس يكفله لغيره!! ألم تكن هذه ليبرالية الجلاد؟ ولمَ لا، وهو رئيس التحرير الوحيد، بين عشرات من محرري الصحف 'المستقلة' الذي خصه الرئيس المخلوع بحديث صحافي قبيل انتخابات الرئاسة في العام 2005؟ لم يكن الأمر مصادفة بطبيعة الحال، فقد تابع قراء الجريدة حجم الدعاية، شديدة التنطع والفجاجة، التي صاحبت هذه الانتخابات والكيفية التي نشر بها حوار الرئيس، حيث يتمترس ابنه في الخلفية بِطلعته غير البهية. تلك الطلعة التي لم تنقطع من على صفحات الجريدة. فلا يكاد يمر يوم، تقريبا، إلا وصورة الوريث 'المخلوع' تتصدر الغلاف الأول أو الثاني لها. في المقابل لا يستطيع أحد من المتابعين أن يفسر الانقلاب الذي قادته الجريدة ضد الدكتور أيمن نور وصيف الرئيس المخلوع والمحاولات المسرفة والمتعسفة لتشويهه بشكل غير مسبوق، رغم أن الجلاد يعلم علم اليقين حجم الجريمة التي ارتكبها الرئيس المخلوع في حق نور وحق أسرته، بل في حق حرية جميع المصريين على السواء. واستطرادا للأمر لا يمكننا أن ننسى الحوارات متتابعة الحلقات، والمسرفة في احتفائها بدكاكين الفساد وسراق المال العام، التي أجراها الجلاد مع رموز العهد البائد. وهل يمكننا النظر إلى هذه الحوارات الآن بمعزل عن تلك المقالة المشبوهة للوزير الهارب، لا سيما وأن السيد الجلاد يعلم، علما نافيا لأية جهالة، أن أبرز هذه الرموز تقبع الآن في قفص الاتهام وعلى رأسهم أحمد عز، وهشام طلعت مصطفى، بينما البقية تنتظر.
وقد حاولت، كما حاول غيري، التماس الكثير من الأعذار للجريدة ولرئيس تحريرها، باعتبار أن رأس المال الذي يوفره رجال المال والأعمال هو الذي يقيم أودها، وأود رئيس تحريرها. لكن ذلك لا يجب أن يعني، في إطار أية أعراف مهنية وأخلاقية، تحول الجريدة إلى أداة لحماية مراكز قانونية غير مشروعة، أو أن يكون وجودها رهنا بالدفاع عن قيم تنافي ما ينشده المجتمع الحر بعد ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير)، ومن ثم تتحول، كقريناتها القوميات، إلى أداة من أدوات تضليل الرأي العام، وهو موقع لا تبعد عنه الجريدة بمسافة كبيرة.
كذلك أعلم الظروف التي نشأت فيها جريدة 'المصري' وبعض الجرائد المستقلة التي صاحبت، من ناحية، التوجه الأمريكي في إدارة بوش الابن بتقديم دعم جزئي للتحول الديمقراطي في الشرق الأوسط على أن تكون البداية من مصر، وذلك بهدف تجديد شباب النظام السياسي الذي كانت تدرك الولايات المتحدة حجم تيبسه وانسداد شرايينه، ومن ثم كان يتهددها خطر فقدان حليف 'أو كنز استراتيجي' هو مبارك، حسب تعبير وزير الدفاع الإسرائيلي السابق بن أليعازر في وصف دور الرئيس المخلوع. وقد قدمت الولايات المتحدة في هذا السبيل الدعم المادي والمعنوي لعدد كبير من الصحف الطالعة للنهوض بإشاعة الأجواء الديمقراطية في الفضاء العام، عبر تحرير نسبي للمادة الخبرية، بهدف تحريرها بدرجة شبه مقبولة من القيود الرقابية التي تخضع لها تلك الكيانات البائسة، المسماة بالصحف القومية.
من ناحية أخرى كان لا بد أن يظل التوجه العام لهذه الصحف، يعمل في إطار التوجه العام للنظام القائم ساعتئذ. فهي في وجه منها تقدم خدمة صحافية تبدو مختلفة وأكثر قدرة على الاجتراء والمناورة. وهي قادرة أيضا على تقديم بعض الوجوه من خصوم النظام أو ممن يقدمون أنفسهم على أنهم كذلك، وقادرة في الوقت نفسه على تقديم مادة خبرية على صفحاتها الأولى لا تستطيع قريناتها القوميات الاجتراء على تقديمها. وفي وجه آخر تظل تلك الجرائد بطرحها، الذي تكلله أعلى درجات الاستئناس، إحدى مبررات وجود النظام وإحدى أدوات إضفاء الكثير من المشروعية على وجوده وعلى ظلاله الثقيلة، طالما كان العقد الضمني الذي أبرمه مبارك مع الشعب لمدة ثلاثين عاما ظل قائما على الحكمة الشعبية 'ودن من طين وودن من عجين'، فلنا أن نقول ما نريد وللنظام أن يفعل الأمر نفسه، ليس على مستوى القول فحسب بل على مستوى التنكيل وهتك الأعراض والقتل أيضا.
من هنا ربما تمكننا قراءة ما فعله الجلاد بـ 'المصري اليوم' وما سيفعله لاحقا لصالح بقايا النظام البائد، الذين سيستحلبون، قطعا، كافة الكيانات التي ساهموا في صناعتها، حتى يدمى ضرعها. وأحسبهم لن يتورعوا، عندما تواتيهم الفرصة، عن إطلاق ثورتهم المضادة في اللحظة المناسبة، لا سيما وأن ذيول الفاسدين والقتلة لا زالت تحتفظ بسم زعاف. ولا تخفي على المصريين، في هذه اللحظة العصيبة، ما تشيعه فلول الحزب الوطني وأجهزة أمن النظام من فوضى وفتن، وهي أجواء لا أتمنى لـ 'المصري اليوم' أن تكون شريكة في صناعتها، فلا زالت تلك الجريدة، بما تنطوي عليه من كفاءات صحافية ووطنية، جديرة وقادرة على إزاحة السيد مجدي الجلاد وركامه ذي الرائحة غير الزكية، رغم سطوة الطابور الخامس من رجال الأمن والمال والأعمال، الذين تمثل الجريدة حصتهم الأعلى والأكثر ربحية، كأداة مؤثرة من أدوات الاستقطاب وتسميم الفضاء العام.
يدهشني، كما يدهش كثيرين، أمر جريدة 'المصري اليوم'. فلن يتمكن عتاة الليبراليين من أن يشرحوا لنا كيف انفلتت تلك الجريدة ـ وهي ترتدي ثياب الواعظين - إلى الحد الذي دفعها لنشر مقال مبرز للوزير 'الهارب' للتجارة والصناعة رشيد محمد رشيد في عددها الصادر يوم الاثنين 8 ـ 3 - 2001.
المقال يمثل عريضة دفاع يائسة، في وقت يعلم فيه القاصي والداني بإحالة الرجل إلى محكمة الجنايات، وإصدار سلطة الإنتربول مذكرة اعتقال بحقه بناء على طلب السلطات المصرية، بعد أن وجهت له النيابة العامة تهم التربح من أعمال وظيفته والاستيلاء وإهدار المال العام. وهو ما يعني، بالتعريف القانوني، أن ثمة جدية تقوم عليها اتهامات الادعاء العام، وليست ثمة شبهة من أي نوع تحيط بمثل هذه القرارات لأن جميع المتهمين بقضايا مثيلة، بمن فيهم السيد رشيد، يحاكمون أمام قاضيهم الطبيعي، رغم أن الظرف العام كان يمكنه أن يقذف بهم أمام المحاكم الاستثنائية، سواء كان ذلك أمام القضاء العسكري أو أمام محاكم أمن الدولة العليا، جريا على ما كان يفعله النظام البائد الذي يعد رشيد واحدا من رموزه المبرزين.
فقد رفض المجلس الأعلى للقوات المسلحة استخدام القوانين العرفية، وتصرف بمسؤولية وأخلاقية يستهجنهما الآن عتاة الليبرالية، بسبب ما يرونه إجراءات غير كافية لوأد بذور الثورة المضادة التي يقودها الطابور الخامس لأجهزة الأمن وفلول الحزب الوطني وعدد وفير من رجال الأعمال وسراق المال العام.
بالطبع، لا يجب أن نتعامل مع رشيد باعتباره مذنبا بالضرورة. فيظل ما وجهته إليه سلطات الاتهام محتاجا إلى أحكام قضائية باتة ونهائية بالبراءة أو الإدانة، لكن ثمة أسئلة لا بد أنها دارت في خلد السيد مجدي الجلاد رئيس تحرير الجريدة التي تتبنى موقف الوزير الهارب، منها مثالا، تأثير مثل هذا الكلام المرسل والملقى على عواهنه على عملية سير العدالة، وتغيير الكثير من الأدلة المطروحة أمام سلطة الاتهام ومحاولة التأثير في ضميرها. فمن الفرضيات الأولى للموضوعية في حالة كهذه أن نترك أمر التداعي والاتهام لصاحب الاختصاص الأصيل وهو القضاء، طالما انتقل النزاع من أدراج التجريس المجتمعي والسياسي إلى إطاره الموضوعي عبر الاحتكام لقواعد العدالة. وجميعنا يعرف أن الكثير من الدوائر القضائية تقوم، في معظم قضايا الرأي العام، بحظر النشر ما استمرت المحاكمة أو تقصر ذلك على مرحلة من مراحلها، وهو إجراء لا يأتي اعتباطيا، بل يفرضه القاضي على نفسه وعلى الآخرين، لما يسبغه هذا الإجراء من حماية للمراكز القانونية المختلفة. فهو يمثل، في مثل هذه القضايا، حماية للمتهم قبل أن يكون حماية للمحكمة وللرأي العام في الوقت نفسه. كل ذلك يتأتى في إطار الحرص على تقليص أية عناصر بإمكانها أن تصرف العدالة عن جوهر بحثها وهو ما يقلل من فرص التأثير على سير العدالة باعتبار القضاة أنفسهم من البشر الخطائين مثلنا تماما، لكن نتائج أخطائهم لن تكون هي نفسها نتائج أخطائنا، ومن ثم فإن المكان الوحيد الذي كان يلائم عرض مرافعة السيد الوزير هو ساحات المحاكم وليس صفحات 'المصري اليوم'.
ليس هذا هو المنعرج الوحيد الذي يمكننا التوقف على ناصيته، بل ثمة ما يثير العجب على مستوى آخر، ألا وهو مضمون مقال الوزير الهارب.
فقبل أيام قلائل أدلى الرجل من موطنه الأمريكي الجديد بعدة تصريحات لصحيفة 'الواشنطن بوست' يعبر فيها عن صدمته مما يحدث له، ويعلن رفضه العودة إلى أرض الوطن. وعلى حد قوله ستعني العودة بالنسبة له إيداعه السجن بمجرد أن تلامس قدماه أرض مطار القاهرة. فبأية موازين يمكننا أن نثمن موقف الجريدة حيال وزير يتعمد الهروب من العدالة ويعلن موقفه بهذا السفور رغم علمه اليقيني بإحالة ملفه إلى محكمة الجنايات، بعد أن امتنع، عبر عدة جلسات، عن حضور تحقيقات النائب العام. الأمر يعني من الناحية القانونية، أنه يتنازل عن حقه في الدفاع، ومن ثم فمن المتوقع أن يصدر ضده حكم بإيقاع أقصى العقوبة، لأن الوجه الآخر للتنازل عن الحق في الدفاع هو الإقرار بالأفعال المنسوبة للمتهم، أي متهم.
أما المثير في موضوع مقال الوزير الهارب فهو هذا الدفاع المستبسل والمثير للسخرية عن الثورة المصرية. فهل كان رشيد مع الثورة المصرية؟!! ثم تتحول مقالة الوزير، بعد فاصل من النفاق الرخيص للثورة، إلى عريضة من الدفاع اليائس عن شرفه المهني والأخلاقي. وهي عريضة، كما أسلفنا، تأتي في غير مكانها. ولا أظن المصريين الآن بإمكانهم تصديق الرجل. وعلى الأرجح، لن تنطلي عليهم أراجيز الجلاد الذي سريعا ما سينبري للدفاع عن فعلته باعتبارها من أدبيات الاعتراف للآخر بحقه في الوجود، وهي قولة حق طالما أشبعناها بالدنس بسبب إسرافنا في محاولات استنباتها من رحم الباطل.
من هنا لا يمكننا فهم موقف 'المصري اليوم' ورئيس تحريرها من الوزير الأسبق سوى كونه منهجا توطنت عليه الجريدة منذ إنشائها، وهو منهج ارتكبت ـ تحت رايته ـ ما يرقى إلى مرتبة الجرائم الأخلاقية. فكثيرا ما أثار السيد الجلاد الكثير من الغثاء بِرُطَان نصفه جاهل ونصفه مغرض، حول التعدد والتنوع واحترام الرأي الآخر. وظل هذا البؤس الفكري والأخلاقي بوابة للتعاطف السري أحيانا والمعلن في معظم الأحايين، مع مشروع توريث حكم مصر لجمال مبارك باعتباره 'مواطنا مصريا' وما يكفله الدستور لابن الرئيس يكفله لغيره!! ألم تكن هذه ليبرالية الجلاد؟ ولمَ لا، وهو رئيس التحرير الوحيد، بين عشرات من محرري الصحف 'المستقلة' الذي خصه الرئيس المخلوع بحديث صحافي قبيل انتخابات الرئاسة في العام 2005؟ لم يكن الأمر مصادفة بطبيعة الحال، فقد تابع قراء الجريدة حجم الدعاية، شديدة التنطع والفجاجة، التي صاحبت هذه الانتخابات والكيفية التي نشر بها حوار الرئيس، حيث يتمترس ابنه في الخلفية بِطلعته غير البهية. تلك الطلعة التي لم تنقطع من على صفحات الجريدة. فلا يكاد يمر يوم، تقريبا، إلا وصورة الوريث 'المخلوع' تتصدر الغلاف الأول أو الثاني لها. في المقابل لا يستطيع أحد من المتابعين أن يفسر الانقلاب الذي قادته الجريدة ضد الدكتور أيمن نور وصيف الرئيس المخلوع والمحاولات المسرفة والمتعسفة لتشويهه بشكل غير مسبوق، رغم أن الجلاد يعلم علم اليقين حجم الجريمة التي ارتكبها الرئيس المخلوع في حق نور وحق أسرته، بل في حق حرية جميع المصريين على السواء. واستطرادا للأمر لا يمكننا أن ننسى الحوارات متتابعة الحلقات، والمسرفة في احتفائها بدكاكين الفساد وسراق المال العام، التي أجراها الجلاد مع رموز العهد البائد. وهل يمكننا النظر إلى هذه الحوارات الآن بمعزل عن تلك المقالة المشبوهة للوزير الهارب، لا سيما وأن السيد الجلاد يعلم، علما نافيا لأية جهالة، أن أبرز هذه الرموز تقبع الآن في قفص الاتهام وعلى رأسهم أحمد عز، وهشام طلعت مصطفى، بينما البقية تنتظر.
وقد حاولت، كما حاول غيري، التماس الكثير من الأعذار للجريدة ولرئيس تحريرها، باعتبار أن رأس المال الذي يوفره رجال المال والأعمال هو الذي يقيم أودها، وأود رئيس تحريرها. لكن ذلك لا يجب أن يعني، في إطار أية أعراف مهنية وأخلاقية، تحول الجريدة إلى أداة لحماية مراكز قانونية غير مشروعة، أو أن يكون وجودها رهنا بالدفاع عن قيم تنافي ما ينشده المجتمع الحر بعد ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير)، ومن ثم تتحول، كقريناتها القوميات، إلى أداة من أدوات تضليل الرأي العام، وهو موقع لا تبعد عنه الجريدة بمسافة كبيرة.
كذلك أعلم الظروف التي نشأت فيها جريدة 'المصري' وبعض الجرائد المستقلة التي صاحبت، من ناحية، التوجه الأمريكي في إدارة بوش الابن بتقديم دعم جزئي للتحول الديمقراطي في الشرق الأوسط على أن تكون البداية من مصر، وذلك بهدف تجديد شباب النظام السياسي الذي كانت تدرك الولايات المتحدة حجم تيبسه وانسداد شرايينه، ومن ثم كان يتهددها خطر فقدان حليف 'أو كنز استراتيجي' هو مبارك، حسب تعبير وزير الدفاع الإسرائيلي السابق بن أليعازر في وصف دور الرئيس المخلوع. وقد قدمت الولايات المتحدة في هذا السبيل الدعم المادي والمعنوي لعدد كبير من الصحف الطالعة للنهوض بإشاعة الأجواء الديمقراطية في الفضاء العام، عبر تحرير نسبي للمادة الخبرية، بهدف تحريرها بدرجة شبه مقبولة من القيود الرقابية التي تخضع لها تلك الكيانات البائسة، المسماة بالصحف القومية.
من ناحية أخرى كان لا بد أن يظل التوجه العام لهذه الصحف، يعمل في إطار التوجه العام للنظام القائم ساعتئذ. فهي في وجه منها تقدم خدمة صحافية تبدو مختلفة وأكثر قدرة على الاجتراء والمناورة. وهي قادرة أيضا على تقديم بعض الوجوه من خصوم النظام أو ممن يقدمون أنفسهم على أنهم كذلك، وقادرة في الوقت نفسه على تقديم مادة خبرية على صفحاتها الأولى لا تستطيع قريناتها القوميات الاجتراء على تقديمها. وفي وجه آخر تظل تلك الجرائد بطرحها، الذي تكلله أعلى درجات الاستئناس، إحدى مبررات وجود النظام وإحدى أدوات إضفاء الكثير من المشروعية على وجوده وعلى ظلاله الثقيلة، طالما كان العقد الضمني الذي أبرمه مبارك مع الشعب لمدة ثلاثين عاما ظل قائما على الحكمة الشعبية 'ودن من طين وودن من عجين'، فلنا أن نقول ما نريد وللنظام أن يفعل الأمر نفسه، ليس على مستوى القول فحسب بل على مستوى التنكيل وهتك الأعراض والقتل أيضا.
من هنا ربما تمكننا قراءة ما فعله الجلاد بـ 'المصري اليوم' وما سيفعله لاحقا لصالح بقايا النظام البائد، الذين سيستحلبون، قطعا، كافة الكيانات التي ساهموا في صناعتها، حتى يدمى ضرعها. وأحسبهم لن يتورعوا، عندما تواتيهم الفرصة، عن إطلاق ثورتهم المضادة في اللحظة المناسبة، لا سيما وأن ذيول الفاسدين والقتلة لا زالت تحتفظ بسم زعاف. ولا تخفي على المصريين، في هذه اللحظة العصيبة، ما تشيعه فلول الحزب الوطني وأجهزة أمن النظام من فوضى وفتن، وهي أجواء لا أتمنى لـ 'المصري اليوم' أن تكون شريكة في صناعتها، فلا زالت تلك الجريدة، بما تنطوي عليه من كفاءات صحافية ووطنية، جديرة وقادرة على إزاحة السيد مجدي الجلاد وركامه ذي الرائحة غير الزكية، رغم سطوة الطابور الخامس من رجال الأمن والمال والأعمال، الذين تمثل الجريدة حصتهم الأعلى والأكثر ربحية، كأداة مؤثرة من أدوات الاستقطاب وتسميم الفضاء العام.